سورة التوبة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء} نهيٌ لكل فردٍ من أفراد المخاطَبين عن موالاة فردٍ من المشركين بقضية مقابلةِ الجمعِ بالجمع الموجبةِ لانقسام الآحادِ إلى الآحاد كما في قوله عز وجل: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} لا عن موالاة طائفةٍ منهم فإن ذلك مفهومٌ من النظم دِلالةً لا عبارةً والآية نزلت في المهاجرين فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا: إنْ هاجرنا قطَعْنا آباءَنا وأبناءَنا وعشيرتَنا وذهبت تجارتُنا وهلكتْ أموالُنا وخَرِبَتْ ديارُنا وبقِينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجلُ يأتيه ابنُه أو أبوه أو أخوه أو بعضُ أقاربه فلا يلتفت إليه ولا يُنزِله ولا يُنفق عليه ثم رُخِّصَ لهم في ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحِقوا بمكةَ نهياً عن موالاتهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعَمُ أحدُكم طعمَ الإيمانِ حتى يُحب في الله أبعدَ الناس منه ويُبغضَ في الله أقربَ الناس إليه» {إِنِ استحبوا الكفر} أي اختاروه {عَلَى الإيمان} وأصرّوا عليه إصراراً لا يُرجى معه الإقلاعُ عنه أصلاً، وتعليقُ النهي عن الموالاة بذلك لما أنها قبلَ ذلك ربما تؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورِهم بمحاسن الدين {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} أي واحداً منهم كما أشير إليه، وإفرادُ الضميرِ في الفعل لمراعاة لفظِ الموصولِ وللإيذان باستقلال كلِّ واحدٍ منهم في الاتصاف بالظلمِ لا أن المرادَ تولي فردٍ واحدٍ، وكلمةُ مِنْ في قوله تعالى: {مّنكُمْ} للجنس لا للتبعيض {فَأُوْلَئِكَ} أي أولئك المتولّون {هُمُ الظالمون} بوضعهم الموالاةَ في غير موضعِها كأنّ ظلمَ غيرِهم كلا ظلمٍ عند ظلمِهم.
{قُلْ} تلوين للخطاب وأمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يُثبِّت المؤمنين ويقوّيَ عزائمَهم على الانتهاء عما نُهوا عنه من موالاة الآباءِ والإخوانِ ويزهِّدَهم فيهم وفيمن يجري مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطعَ علائقَهم عن زخارف الدنيا وزينتِها على وجه التوبيخ والترهيب {إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وَأَزْوَاجُكُم} لم يُذكر الأبناءُ والأزواجُ فيما سلف لأن موالاةَ الأبناءِ والأزواجِ غيرُ معتادةٍ بخلاف المحبة {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي أقرباؤُكم مأخوذ من العِشرة أي الصحبة وقيل: من العشَرة فإنهم جماعةٌ ترجِع إلى عَقد كعقد العشرة، وقرئ {عشيراتكم} و{عشائرُكم} {وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماءً إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين {وتجارة} أي أمتعةٌ اشتريتموها للتجارة والربح {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقتِ رواجِها بغَيْبتكم عن مكةَ المعظمةِ في أيام الموسم {ومساكن تَرْضَوْنَهَا} أي منازلُ تعجبكم الإقامةُ فيها من الدور والبساتينِ، والتعرُّضُ للصفات المذكورة للإيذان بأن اللومَ على محبة ما ذكر من زينة الحياةِ الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادي المحبة وموجباتِ الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسنِ بمعزل عن أن يُؤثَرَ حبُّها على حبه تعالى وحبِّ رسولِه عليه الصلاة والسلام كما في قوله عز وجل: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدمُ المفارقةِ لا الحُبُّ الجِبِليُّ الذي لا يخلو عنه البشرُ فإنه غيرُ داخلٍ تحت التكليفِ الدائرِ على الطاقة.
{وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} نُظم حبُّه في سلك حبِّ الله عز وجل وحبِّ رسولِه صلى الله عليه وسلم تنويهاً لشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يُحَبَّ فضلاً عن أن يُكرَه وإيذاناً بأن محبتَه راجعةٌ إلى محبتهما فإن الجهادَ عبارةٌ عن قتال أعدائِهما لأجل عداوتِهم فمَن يحبُّهما يجب أن يحِبَّ قتالَ من لا يحبُّهما {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه فتحُ مكةَ وقيل: هي عقوبةٌ عاجلةٌ أو آجلة {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القومَ الفاسقين كافةً فيدخل في زمرتهم هؤلاءِ دخولاً أولياً، أي لا يرشدهم إلى ما هو خيرٌ لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يَتخلّص منه إلا من تداركه لطفٌ من ربه والله المستعان.


{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} الخطابُ للمؤمنين خاصة {فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} من الحروب وهي مواقُعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطفٌ على محل {في مواطن} بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين، أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل: المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين، وقيل: يومَ حنين منصوبٌ بمضمر معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين.
{إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنه لم يكن في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ، أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ، وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعةُ بين المسليمن وهم اثنا عشر ألفاً، عشرةُ آلافٍ منهم ممن شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء، وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ بنُ سلامةَ الأنصاري: لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئاً من الإغناء {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ} أي برَحْبها وسَعتها على أن {ما} مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرّاً تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} رُوي «أنه بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذاً بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيانَ بنُ الحارث آخذاً بركابه وهو يركُض البغلةَ نحو المشركين وهو يقول: أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطلب» روي أنه عليه الصلاة والسلام «كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس: كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين، وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه عليه الصلاة والسلام كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقاً للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال: يا رب ائتني بما وعدتَني وقال للعباس وكان صيِّتاً: صِحْ بالناس فنادى الأنصارَ فخِذاً فخِذاً ثم نادى يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك وذلك».


قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} أي رحمتَه التي تسكُن بها القلوبُ وتطمئنُّ إليها اطمئناناً كلياً مستتبِعاً للنصر القريبِ، وأما مطلقُ السكينةِ فقد كانت حاصلةً له عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أيضاً {وَعَلَى المؤمنين} عطفٌ على رسولِه، وتوسيطُ الجارِّ بينهما للدِلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل: على الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو على الكل وهو الأنسبُ ولا ضيرَ في تحقيق أصلِ السكينةِ في الثابتين من قبل، والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ للإشعار بعلية الإنزال {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} أي بأبصاركم كما يرى بعضُكم بعضاً وهم الملائكةُ عليهم السلام عليهم البياضُ على خيول بُلْقٍ فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمِيَ الوطيسُ فأخذ كفاً من التراب فرمى به نحو المشركين وقال: «شاهت الوجوه فلم يبقَ منهم أحدٌ إلا امتلأت به عيناه ثم قال عليه الصلاة والسلام: انهزَموا وربِّ الكعبة» واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل: خمسةُ آلافٍ، وقيل: ثمانيةُ آلافٍ، وقيل: ستةَ عشَرَ ألفاً، وفي قتالهم أيضاً فقيل: قاتلوا، وقيل: لم يقاتلوا إلا يومَ بدر وإنما كان نزولُهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطِر الحسنةِ وتأييدِهم بذلك وإلقاءِ الرعبِ في قلوب المشركين. قال سعيد بن المسيِّب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حُنين قال: لما كشَفْنا المسلمين جعلْنا نسوقُهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلةِ الشهباءِ تلقانا رجالٌ بِيضُ الوجوه فقالوا: شاهت الوجوهُ ارجِعوا فرجَعنا فركِبوا أكتافنا {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر والسبي {وَذَلِكَ} أي ما فُعل بهم مما ذكر {جَزَاء الكافرين} لكفرهم في الدنيا {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء} أن يتوبَ عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام {والله غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم. روي «أن ناساً منهم جاءوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خيرُ الناسِ وأبرُّ الناس وقد سُبيَ أهلونا وأولادنا وأُخذت أموالُنا. قيل: سُبيَ يومئذ ستةُ آلافِ نفسٍ وأُخذ من الإبل والغنمِ ما لا يُحصى فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي ما ترون إن خيرَ القولِ أصدقُه، اختاروا إما ذرارِيَكم ونساءَكم وإما أموالَكم قالوا: ما كنا نعدِل بالأحساب شيئاً فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيَّرناهم بين الذراري والأموالِ فلم يعدِلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبْيٌ وطابت نفسُه أن يرُدَّه فشأنُه، ومن لا فليُعطِنا وليكُنْ قَرْضاً علينا حتى نُصيبَ شيئاً فنعُطِيَه مكانه، قالوا: قد رضِينا وسلّمنا فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمُروا عُرفاءَكم فليرفعوا ذلك إلينا فرَفَعتْ إليه العرفاءُ أنهم قد رضُوا».

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9